فصل: مطلب: أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: الدعاء وشروطه والجمع بين الآيات الثلاث فيه وشروط الإجابة:

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أو قال توجه لخيبر أشرف على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير اللّه أكبر لا إله إلا اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيها الناس «اربعوا-أرفقوا- على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم».
ورويا عن أبي هريرة قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له».
واعلم أن هذه الآية وآية: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية: 10 من سورة المؤمن مطلقة وآية: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} الآية: 42: من الأنعام أيضا مقيدة، والمطلق بحمل على المقيد، فلا يقال دعوت فلم يستجب لي، لأن اللّه تعالى يجيب لمن يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، والإجابة غير الإعطاء، وهذا هو وجه الجمع بين الآيات الثلاث، تدبر.
ومن شروط الإجابة أكل الحلال، والإنابة إلى اللّه، والإخلاص له بالعمل، والاعتقاد بالإجابة، وعدم التردد، وأن يكون عند الدعاء خاشعا خاضعا، وأن يبدأه بحمد اللّه والصلاة على رسوله، ويختمه بهما، ويذكر حاجته في الوسط، فاللّه أكرم من أن يردها ويقبل طرفيها، وقل أن توجد هذه الشروط في الداعي، حتى أن بعض العلماء اشترط في الدعاء عدم اللحن، وقال إن اللّه لا يقبل دعاء ملحونا، ويفقد هذه الشروط يكون التخلف في الإجابة، لأن من لا يتصف بها لا يستحقها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله دعوت فلم يستجب لي.
ولمسلم:
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل، قيل يا رسول اللّه ما الاستعجال؟ قال يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر، أي يستنكف عند ذلك ويدع الدعاء.
ورويا عن أبي هريرة: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن يعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له.
زاد البخاري ارزقني إن شئت يعزم المسألة فإن اللّه يفعل ما يشاء لا مكره له.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم: ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.- أخرجه الترمذي- وأخرج أبو داود عن سلمان قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا أي خالية يقال بيت صفر أي ليس فيه شيء خاليتين.
وأخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: ما على الأرض مسلم يدعو اللّه بدعوة إلا آتاه اللّه إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال، اللّه أكثر.
أي أكثر إجابة إذا أكثرتم السؤال.
وله عن أبي هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء.
وله عن أنس: الدعاء مخ العبادة.
وله عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل اللّه شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
وله عن سلمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر.
وله عن أبي هريرة أنه قال: من لم يسأل اللّه يغضب عليه.
وقيل في معناه:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب

اللّه يغضب إن تركت سؤاله ** وبني آدم حين يسأل يغضب

وله عن خفالة بن عبيد قال: سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال النبي عجل هذا أي لم يبدأ دعاءه بالحمد للّه والصلاة على رسوله ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء.
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ} ملامسة النساء ومباشرتهن، وهو كناية عن الجماع، لأن اللّه تعالى يكني عما يستقبح ذكره إشارة أو إيماء أو تعريضا بما يفهم منه المقصود تعليما لعباده ومراعاة للأدب في كل حال، وهذا الحل خاص: {إِلى نِسائِكُمْ} اللاتي استحللتم مقاربتهن بكتاب اللّه تعالى: {هُنَّ لِباس لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباس لَهُنَّ} وذلك أن كلّا من الزوجين ستر للآخر عما لا يحل، كما جاء في الحديث: من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه.
ولهذا سمي كل منهما لباسا لصاحبه.
وفي رواية: شطر دينة فليتق اللّه في الشطر الآخر.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: لما ينزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللّه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي تأتون أهلكم خفية وسمي العاصي هنا خائنا مع أن الخائن هو الذي لا يؤدي الأمانة لأنه لا يؤتمن على دينه، وقد كان في بداية الإسلام إذا أفطر الرجل حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها، ثم يحرم عليه كل ذلك إلى الليلة الأخرى، فوقع أن عمر الفاروق أتى أهله بعد هذا، فاغتسل وصار يبكي خشية من اللّه تعالى وهو لا تبكيه السيوف والأسنّة، فلم يقدر على كتم ما وقع منه في ذلك لصلابة دينه وعظيم يقينه، إلا أن ذكر ذلك لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بحضور جماعة من الأصحاب اعترفوا بعده مثل اعترافه، وكان بعضهم لا يقرب أهله رمضان كله تحاشيا من الوقوع فيما لا يحل، قال ابن عباس فكان ذلك أي فعل عمر مما نفع اللّه به الناس ورخص لهم ويسر، فلما اعترفوا للرسول وتابوا تاب اللّه عليهم وختم اللّه رخصته لهم بقوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} ما وقع منكم ورفع ذلك عنكم بفضله: {فَالْآنَ} أيها المؤمنون جميعكم: {بَاشِرُوهُنَّ} في ليالي الصوم وغيرها، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة الزوج بشرة زوجته: {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} في علمه من الولد، ولا تقتصروا في الجماع إلى إخراج الشهوة فقط وصيانة النفس من الوقوع في الحرام، بل اقصدوا الذرية أيضا، ثم أحل لهم الأكل والشرب الذي كانوا يعتقدون حرمته بعد العشاء أو النوم فقال جلّ قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي بياض النهار من سواد الليل فنسخ اللّه ما كان متعارفا عندهم من أن الصيام من العشاء إلى العشاء لأنهما أكلتان الغداء سقط بالصوم وبقي العشاء فقط، ثم إن اللّه تعالى تصدق على أمة محمد فشرع لهم السحور بدل الغداء إلا أنه قدم عن وقته فهو من خصائص هذه الأمة.
روى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن حرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى أهله فقال أعندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عنه فجاءته امرأته وهو نائم فقالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية فصاروا يأكلون ويشربون ويجامعون إلى أن يظهر بياض الفجر الصادق الذي هو كالخيط الأبيض الممتد في الأفق، أما الفجر الكاذب الذي يكون قبله مرتفعا مستطيلا في السماء لا معترضا بالأفق فليس بمانع من الأكل والشرب والجماع، فقد روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال كان يؤذن بالسحر ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وبه يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع.
وروى البخاري ومسلم عن سهل ابن سعد قال: لما نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال من عوام الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللّه بعده: {مِنَ الْفَجْرِ} وقد أخرت من هذه الآية لهذا السبب.
وليعلم أن ما ذكرنا من النسخ في هذا آنفا هو باعتبار ما كان عليه الناس في الجاهلية، وليس بالنسخ الذي يريده من قال به، لأن النسخ الذي يريده هو إبطال حكم سابق بنص لا حق، ومن المعلوم أن اللّه تعالى لم ينزل علينا في كتابه هذا حرمة الجماع والأكل والشرب على الصائمين بعد العشاء أو في الليل حتى يقال إنه نسخ بهذه الآية، وعليه فلا معنى للنسخ ولا القول به هنا البتة كما هو الحال في الكعبة، لأن اللّه تعالى لم يأمرنا باستقبال البيت المقدس قبلا حتى يقال إنه نسخ استقباله بالأمر باستقبال الكعبة: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أيها الصائمون بعد غياب الشمس من المحل الذي أنتم فيه لأنها قد تكون طالعة في غيره بسبب ارتفاع حدبة الأرض، فهي دائما طالعة عند أناس، غائبة عند آخرين، وما جاء أن الأرض مفروشة أو مبسوطة أو ممهدة أو ممدودة من كل ما يدل على استوائها من الآيات فهو بالنظر لما نراه لا بالنسبة لما هي عليه من التكوين الإلهي، فالنملة لا شك ترى البيضة مستوية مبسوطة بالنسبة لصغرها وعظم البيضة، فنحن أصغر من النملة بالنسبة للأرض بملايين الكرات.
هذا، ومن قال إن المراد بالليل طلوع النجم قول غير وجيه ينافيه معنى الغاية، وما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم، أي جاز له الفطر.
والتصريح بقوله وغربت كاف.
في الدلالة على عدم صحة قول من فسر الليل بطلوع النجم، لأن السنة مفسرة لكلام اللّه تعالى، ولأن أول الشيء عينه، وغياب الشمس أول الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لئلا يخطئ في الإفطار فيضيع صيامه، كما عليه أن يحفظ جوارحه من الآثام الظاهرة والباطنة كي ينال أجره تماما، قال أحمد عبيده:
تصوم عن الطعام ولا تبالي ** بصوم الطرف واليد واللسان

وإن لكل جارحة صياما ** جزيل الأجر موصول الزمان

{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} أي النساء: {وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} لا ليلا ولا نهارا سواء كان في رمضان أو غيره صيّاما كنتم أو مفطرين، وقد أنزل اللّه تعالى هذه الجملة لئلا يتوهم أن حكم الاعتكاف كحكم الصوم يحرم نهارا على الصائم، ويحل ليلا، بل يحرم الجماع في الاعتكاف ليلا ونهارا، وذلك أن المعتكفين يخرجون من المسجد ليأتوا أهلهم ثمّ يغتسلون ويرجعون إليه.
والحكم الشرعي في الاعتكاف هو سنة مطلقا، وسنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، وهو الإقامة في المسجد على عبادة اللّه تعالى، فإذا جلس يذكر اللّه تعالى في المسجد فهو معتكف، ولا يصح خارج المسجد، ولا يشترط له الصوم إلا أن الأفضل أن يكون صائما، وليس له زمان محدود فيصح ولو دقيقة واحدة، ويفسده الجماع، ويكره فيه القبلة ونحوها، ولا بأس في خروجه من المسجد لحاجته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
ولعمري لقد كان السلف الصالح يعتكفون فيه جماعات ووحدانا فلا تجد مسجدا إلا وفيه المعتكفون عاكفين على ذكر اللّه، ويا للأسف لا تجد الآن إلا ما ندر ممن بشار إليهم بالبنان، وإن من لا خلاق له في الآخرة قد ينتقدونهم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا باللّه: {تِلْكَ} الأحكام المبينة في الصوم والاعتكاف هي: {حُدُودُ اللَّهِ} التي حذر قربانها ومنع من مخالفتها: {فَلا تَقْرَبُوها} يا عباد اللّه، وهذا مبالغة في النهي عن إتيانها، لأنه إذا كان قربانها ممنوعا فكيف بفعلها حذار حذار عباد اللّه من ذلك.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها وَلَهُ عَذاب مُهِين} الآية: 14 من سورة النساء، وهناك آيات أخر في هذا المعنى تحذر من قربان حدود اللّه والتعدي عليها فلا تعتدوها أيها الناس.
واعلم أن التوفيق بين القربان والاعتداء هو أن الأحكام منها ما هو محظور ومنها ما هو مباح وأقربها لهذه الآية: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} ففيها تحريم الجماع في الاعتكاف مطلقا، وفي الآية قبلها: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} النص على تحريم الأكل والشرب والجماع في النهار، ولما كان الأقرب فيها جانب التحريم قال: {فَلا تَقْرَبُوها} وإن من كان في طاعة اللّه فهو في حيز الحق فنهى أن يتعداه لئلا يقع في حيز الباطل فنهى عن أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يقع في الباطل فهو كقوله صلّى اللّه عليه وسلم في حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور، إلى أن قال: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
فنهى صلّى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث عن قربان الأمور المشتبهة حذرا من أن يقع في الحرام وحدود اللّه تعالى محارمه ومناهيه، فعليكم أيها الناس التباعد عنها لئلا تقعوا فيما ينهاكم عنه فتهلكوا: {كَذلِكَ} مثل ما بين لكم تلك الأحكام: {يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ} الدالة على معالم دينه وشعائر شريعته وبراهين توحيده بيانا شافيا: {لِلنَّاسِ} أجمع: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [187] ما حرم عليهم فيثابون بمجرد الامتثال.

.مطلب: أخذ أموال الناس باطلا والقضاء لا يحلل ولا يحرم ومعنى الأهلة وما كان في الجاهلية وأنه القتال الأولى:

قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} ظلما بشهادة زور أو حلف يمين كاذبة: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [188] أنكم مبطلون في ذلك، كان ادعى لدى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ربيعة بن عدوان الحضرمي في أرض على امرئ القيس بن عابس الكندي، فقال له ألك بينة؟ قال لا، قال فك يمينه، فانطلق ليحلف، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أما إن حلف على ما له ليأكله ظلما ليلقين اللّه وهو عنه معرض، فأنزل اللّه هذه الآية.
وفي رواية تلا عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 75]، فارتدع عن اليمين وسلم الأرض له.
ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة آنفا، والآية: 28 من سورة النساء.
الحكم الشرعي:
يحرم قطعا أكل مال الغير بغير حله ويستوجب فاعله العقاب سواء أكله غصبا أو قمارا أو بثمن خمر أو خنزير أو أجرة مغبنة أو رشوة، أو بأن يشهد زورا، أو كان أمانة فكتمها، أو وديعة فجحدها، أو غير ذلك.
روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سمع جلبة صوتا عاليا خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصم منكم فلعلّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض».
وفي رواية «ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها».
فيفهم من هذا أن قضاء القاضي لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا لأنه يحكم بما يظهر له من الدعوى والشهادة لا بعلمه ولا بمجرد الدعوى، وكان القاضي شريح يفهم المحكوم له ويقول له إني لأظنك ظالما، ولكن لا يعني إلا أن أقضي بما حضرني من البينة، ألا فليحذر المدعون من ادعاء الباطل ومن إقامة شهود الزور لأخذ مال الغير ظلما بالقضاء، وليحذر المدعى عليهم من الإقدام على الحلف كاذبا لهضم حق الغير الذي لا شاهد له إلا اللّه مع كونه عالما بأنه مدين له، فهي يمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذا كلّه من معاني الإدلاء بالباطل إلى الحكام، أي النسبة إلى حكمهم، فهم لا يسألون عن أحكامهم إذا كانت موافقة لظاهر الشرع، وإنما يسأل المبطل، لأن الحاكم العدل ملزم بأن يحكم بالظاهر، واللّه تعالى يتولى السرائر، ولا تنطبق هذه الآية عليهم إلا في حال أخذ الرشوة، لأن فيها يكون الإدلاء إليهم، أجارنا اللّه ووقانا.
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها، فأبت فادعى عند علي كرم اللّه وجهه أنه زوجها وأقام البينة، فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح، فقال كرم اللّه وجهه قد زوجك الشاهدان وقد طلبت رحمها اللّه إجراء العقد بعد أن رأت الحكم عليها بالزوجية زورا لشدة تمسكها بدينها لتكون زوجة له بالوجه الشرعي، لأنها تزعم أن شهادة الزور لا تكفي، فأخبرها كرم اللّه وجهه أن شهادتهما بزوجيتها له كافية، وليس عليها إثم بمطاوعتها له، وإنما الإثم عليه وعلى الشهود، ولهذا ذهب أبو حنيفة رحمه اللّه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ به من العقود فهو نافذ ظاهرا وباطنا، ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا.
وذهب فيمن ادعى حقا في يد رجل وأقام بينة تقتضي أنه له، وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح أخذه له، وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه، وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه، لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع، وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه، لأن الإمام الأعظم رضي اللّه عنه وأرضاه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت، وإذا أردت تفصيل هذه القضية فارجع إلى كتاب أدب القاضي تر فيه ما تقنع به.
قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ما سبب زيادتها ونقصها وكبرها وصغرها: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي لصومهم وإفطارهم وآجال ديونهم وإجارتهم ونذورهم والحيض والنفاس ومدة العدة والحمل وزمن الحج ووقته وغير ذلك، وهذا خلاف السؤال وهو من أنواع البديع في المخاطبات، لأنه تلقي السامع بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تبينها على أنه الأولى له والأليق لحاله مما يتطلبه من اختلاف حال الهلال، وقد أفرد، تعالى الحج بالذكر مع أنه داخل في المواقيت، لأن العرب كانت تؤخر بعض الأشهر أحيانا كما أخبر اللّه عنهم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَة فِي الْكُفْرِ} الآية: 39 من التوبة الآتية، كان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري سألا حضرة الرسول عن مبدأ الهلال يكون رفيعا ثم يزداد تدريجيا حتى يمتلئ نورا، ثم يتناقص كذلك حتى يعود كما بدأ، وقالوا له إن اليهود يسألوننا كثيرا عن هذا، وإن سؤال اليهود أصحاب الرسول بمثابة السؤال منه، لذلك جاء بضمير الجمع، فإن سؤالهم كان السبب والعلة، فأجابهم اللّه عن الغاية والحكمة لتعلقها بمعاملتهم، ومنه يفهم جواز إعطاء الجواب على خلاف السؤال نظرا للمصلحة، ويسمى أسلوب الحكيم، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم إنما بعث لبيان ذلك لتماسه بحاجتهم، لأن بيان سبب كبره وصغره وعلة ذلك بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس بعدا وقربا لا علاقة له بشيء من منافعهم، ولأن الأصحاب لا يعلمون علم الهيئة الموقوف معرفته على المكبرات والأرصاد والأدلة الفلسفية ولم يعتنوا به لعدم حاجتهم إليه في أمر الدين، ولو أن حضرة الرسول بين لهم ذلك فلعلهم لا يدركونه لا حتياجه لدقة فكر وبعد نظر في المعنى وتأمل بعيد، وعدم علمهم بذلك لا ينقص من قدرهم لأن علم الهيئة مبني على أمور لم تثبت بصورة جازمة، وما صنف بها من الكتب من قبل الفلاسفة وغيرهم، مبني على الظن والتخمين والحسبان، ولذلك تجد أكثر أقوالهم متضاربة سواء الأولون والآخرون منهم، على أنه لا بأس يأخذ أقوالهم مما لا يخالف صراحة القرآن والسنة بالتأويل والتوفيق.
هذا، ولما بين اللّه تعالى لعباده ما يتعلق بالصيام وحل الأكل والجماع وتحريم أكل مال الغير بغير وجه شرعي مما كان معتادا في الجاهلية وفوائد تغير الأهلة بين لهم نوعا آخر كان متعارفا عندهم ويزعمون أن فيه قربة بأنه ليس بقربة لقوله عز قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [189] روى البخاري ومسلم عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عيّر بذلك، فنزلت.
وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فنزلت.
أي أن هذه العادة المتخذة قديما قبل الإسلام ليست من البر في شيء، وأن البرّ هو تقوى اللّه التي فيها الفوز والنجاة والأجر والثواب.
قال تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}.
أي يبدأونكم بالقتال ولا تبدأوهم أنتم بالقتال، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا} بأن تقاتلوهم توا أو تقاتلوا غيرهم أو أولادهم وشيوخهم ونساءهم ورهبانهم والمستسلمين منهم لما فيه من الاعتداء المبغوض: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [190] على أنفسهم وعلى غيرهم، كان الرسول في بداية الإسلام وإلى حد نزول هذه الآية منهيا عن القتال ومأمورا بمعاملتهم بالرفق واللين ليؤمن مؤمنهم ويصرّ كافرهم، ولما اضطروه إلى الهجرة واستقر به الحال في المدينة واجتمع عليه أصحابه ومن آمن من غيرهم، أمره جل شأنه بقتال من بدأه بالقتال أو من تحدّاه به مقابلة لا عداء ولا انتقاما، بقصد إعلاء كلمة اللّه تعالى وإظهار عزّة المؤمنين.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم من قاتل حتى تكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه.
أي أن كل ذلك المسئول عنه غير مطلوب ولا هو في سبيل اللّه، بل هو لإظهار الشجاعة.
وليقال إنه يقاتل ويناضل، وهذه الآية محكمة لأن معناها قاتلوا الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم لا غير ممن ذكر أولا ومما سيأتي ذكره في الحديث الثاني.
وهذه أول آية نزلت في القتال بعد الآية 39 من سورة الحج الآتية، لأنها نزلت قبل هذه، وبعدها وقعت غزوة بدر الأولى في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة.
روى مسلم عن بريدة قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو صرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال له «اغزوا باللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلوا-لا تخفوا شيئا من الغنائم- ولا تعتدوا-أي لا تقتلوا الشيوخ والمرضى والعجزى لأنهم لا يقاتلون- ولا تمثلوا-بأن تقطعوا آذان القتلى أو مذاكيرهم أو أنوفهم أو تشقوا بطونهم أو غير ذلك مما يعد مثلة بنظر الناس- ولا تقتلوا وليدا» أي لأنه لا يقاتل، وهكذا النساء إذا كن لا يقاتلن فلا يجوز قتلهن.
وقال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية، وعلله بأن الأصحاب خافت أن لا تفي قريش بالمعاهدة وكرهوا أن يقاتلوهم إذا صدوهم عن المسجد الحرام أو الحرم ليرفع عنهم الحرج إذا بدءوهم بالقتال، لكنه بعيد، لأن صلح الحديبية وقع في السنة السادسة، وهذه في السنة الثانية، إلا أنه لا مانع من تطبيق حكمها عليها، إذ يجوز أن تكون آية واحدة لأسباب كثيرة كما مر غير مرة.
قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي في أي مكان وجدتموهم وأدركتموهم، وذلك إذا لم ينجع معهم معاملة الرسول لهم باللطف وبدأوكم بالتعرض سواء قاتلوكم أم لا، لأن إقسارهم إياكم على الهجرة يعد تعرضا لقتالكم: {وَأَخْرِجُوهُمْ} من ديارهم: {مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} من دياركم لأنهم كافرون مفتونون في دينهم: {وَالْفِتْنَةُ} أي الشرك باللّه، وإنما سمي فتنة لأن فيه فساد الأرض، ولأنه يؤدي إلى الظلم وجميع الشرور، لذلك عدّت: {أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أي أن قتلكم إياهم دون الكفر الذي هم عليه، لأنه مما يوجب التخليد بالنار، والقتل دون استحلال لا يوجب ذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة، والقتل لا يخرجه، فثبت أن الفتنة التي هي الشرك باللّه والكفر به أشد من القتل: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} لما كان مبدأ هذه الآية عام استثنى اللّه تعالى منه المقاتلة في المسجد الحرام بشرط أن لا يبدءوهم بالقتال فيه: {فَإِنْ قاتَلُوكُمْ} فيه فقد زال الحرج عنكم: {فَاقْتُلُوهُمْ} فيه أيضا: {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء: {جَزاءُ الْكافِرِينَ} [191] لأن الجزاء من جنس العمل، ولأن الشر بالشر والبادي أظلم.
وقال بعض المفسرين إن الفتنة هنا بمعنى الإخراج من الوطن لأنه أعظم المحن التي يفتتن بها الإنسان وهو أصعب من القتل على النفس لدوام تعبه وبقاء ألمه، وهو وجيه، لكن ما جرينا عليه أوجه، لأن الغربة مهما كانت شاقة على النفس فهي دون القتل الذي فيه عدم الإنسان فضلا عن بقاء أمل الرجوع إليه.
وهذه الآية تشير إلى حادثة الحديبية وهي التي ثبطت عزم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وصمم على قتالهم فيها، وبقي هو وأصحابه عازمين جازمين على القتال حتى وقع الصلح بينهم، وهي من قبيل الإخبار بالغيب لأنها نزلت قبل واقعة الحديبية بأربع سنين، ولولاها لما قال صلّى اللّه عليه وسلم ما قاله في قصة الحديبية الآتية في سورة الممتحنة، وحرض أصحابه على قتالهم عند منعهم لعلهم عدم جواز القتال في المسجد وحرمته في زمن الجاهلية، ولهذا قال بعضهم إنها نزلت في صلح الحديبية، وفي نقضهم هذا الصلح وتعرضهم لأصحاب الرسول.
وهذه الآية محكمة أيضا، لأنها تأمر بعدم حل القتال في المسجد إلا لمن قاتل فيه، ولا سند لمن قال بنسخها ونسخ التي قبلها.
قال تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن القتال وتركوا الشرك وآمنوا: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُور} لما سلف منهم: {رَحِيم} [192] بعباده الذين تابوا وأتابوا إليه بعد عتوهم وعنادهم، ومن رحمته عدم تعجيل عقوبتهم لهذه الغاية.
ولما رأى حضرة الرسول أن إمهال المشركين والعفو عنهم واللطف بهم لا يزيدهم إلا كفرا وبغيا وطغيانا طلب من غير طلب أن لا يرضى من مثلهم إلا الإسلام أو القتل، وكان هذا التمني الذي خطر على قلب الرسول مما هو ثابت في علم اللّه ومقدر نزوله عليه أنزل اللّه تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ} أي المشركين، لأن أهل الكتاب عصمهم دينهم وكتابهم الذي فيه شرائع وأحكام إلهية يرجعون إليها وإن غيروا أو بدّلوا بعضه، فأمهلهم اللّه تعالى حرمة لكتابهم وما تمسكوا به من الدين، إلا أنه تعالى إذلالا لهم أمر أخيرا بأخذ الجزية منهم كما سيأتي بعد لعلهم يتدبرون ما في كتبهم من الحق فيتبعونه ويؤمنون بمحمد والقرآن: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَة} أي أديموا قتالهم واستمروا عليه إلى أن لا يبقى شرك على وجه الأرض، لأن المشركين كفرة لا كتاب لهم كي يؤمل فيهم الرجوع إليه، ولأن بقاءهم على الشرك يزيد في طغيانهم وبغيهم وضررهم على المؤمنين، لأنهم مهما تركوا لا يرجى منهم الرجوع إلى الحق، إذ لا دين لهم يسوقهم على سلوك سبل الرشد، لذلك عليكم بهم حتى يمحو نور الإيمان ظلمة الشرك: {وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ} وحده فلا يعبد من دونه شيء: {فَإِنِ انْتَهَوْا} عما هم عليه وأسلموا للّه وآمنوا برسوله وكتابه: {فَلا عُدْوانَ} عليهم إذ لا يكون العدوان: {إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [193] منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم.
وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، ولتعلم أن لا ناسخ في كتاب اللّه هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى.
قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ} لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح اللّه تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل اللّه تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال.
وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضوان اللّه عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح اللّه لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم اللّه تعالى في الآية الأولى بقوله: {فقاتلوا الذين يقاتلونكم} لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.